فصل: القَوْل فِي وصف الْفِعْل بِأَنَّهُ مَكْرُوه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي بَيَان الْمَطْلُوب من قَضِيَّة التَّكْلِيف:

هِيَ بأوصاف رَاجِعَة إِلَى أنفس الْأفعال عقلا كَمَا يَتَّصِف الْجَوْهَر بِكَوْنِهِ متحيزا عقلا. ويتصف الْكَوْن بِكَوْنِهِ مقتضيا تَخْصِيصًا بمَكَان أَو تَقْدِيره عقلا وتتصف الْعلَّة بِكَوْنِهَا مُوجبَة معلولها عقلا. فَهَذِهِ الْأَوْصَاف، وَجُمْلَة أَوْصَاف الْأَجْنَاس تتَعَلَّق بوجودها وذواتها تَخْصِيصًا.
وَأما الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَلَيْسَتْ بأوصاف الْأفعال أصلا. وَالْمحرم شرعا قد يكون مثلا للْوَاجِب فِي كل الْأَوْصَاف بيد أَنَّهُمَا يفترقان فِي قَضِيَّة السّمع مَعَ استوائهما وتماثلهما فِي حكم الْعقل وجودا.
وَذهب بعض المنتمين إِلَى هَذَا الْفَنّ إِلَى أَن الْمَطْلُوب بالتكليف ذَات الْفِعْل.
واعتل هَذَا الْقَائِل بِضَرْب من الجهالات.
وَقَالَ: لَو قدر عدم الْفِعْل انْتَفَت الْأَحْكَام فَدلَّ أَن الْأَحْكَام هِيَ ذَوَات الْأفعال.
قيل: وَلَو قدر عدم الْأَجْسَام وَجب انْتِفَاء الْأَعْرَاض ثمَّ لم يدل ذَلِك على أَن الْأَعْرَاض هِيَ عين الْأَجْسَام.
ثمَّ نقلب عَلَيْهِ ذَلِك فَنَقُول: إِن صَحَّ الِاسْتِدْلَال على كَون الحكم عين الْفِعْل بانتفائه عِنْد عدم الْفِعْل صَحَّ الِاسْتِدْلَال على أَنه غير الْفِعْل لتحَقّق بَقَاء الْفِعْل مَعَ انْتِفَاء الْأَحْكَام.
وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ.
فَإِن قيل: كَمَا يُوصف الْفِعْل بِكَوْنِهِ مَوْجُودا فعلا عرضا مَقْدُورًا مَعْلُوما فَكَذَلِك يُوصف بِكَوْنِهِ حَلَالا حَرَامًا. فَإِذا وَجب الْأَوْصَاف الَّتِي استشهدنا بهَا إِلَى أنفس الْأفعال فَكَذَلِك الْمُخْتَلف فِيهِ. وأردفوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: إِذا لم تصرفوا الْأَحْكَام إِلَى ذَوَات الْأفعال وأوصافها فَمَا مَعْنَاهَا عنْدكُمْ؟ أَهِي عبارَة عَن وجود أَو عدم؟ ففصلوا قَوْلكُم فِيهَا.
قيل: مَا استفصا لكم عَن حَقِيقَة مَذْهَبنَا. فَهُوَ أولى مَا نبدأ بِهِ فالأحكام هِيَ أَخْبَار الله عز وَجل عَمَّا يطْلب بالشرائع وَإِذا تعلق كَلَام الرب عزت قدرته بالمطالب السمعية فَهُوَ حكمه علينا. فَخرج لَك من ذَلِك أَن الحكم يؤول إِلَى كَلَام الله تَعَالَى عِنْد تعلقه بالمطالب السمعية وَأما مَا استروحوا إِلَيْهِ من قَوْلهم أَن الْفِعْل ينعَت بِكَوْنِهِ حَلَالا حَرَامًا كَمَا ينعَت بِكَوْنِهِ مَوْجُودا فعلا، فَهَذَا استرواح إِلَى التسميات، والإطلاقات المنطوية على الْحَقَائِق والمجازات. وَالْمعْنَى بِكَوْنِهِ حَلَالا حَرَامًا محرم. والمعني بِكَوْنِهِ محللا محرما أَن الرب أخبر الْمُكَلّفين بِالتَّحَرِّي فِي فعل والاجتناب عَن فعل. وَهَذَا مَا لَا يرجع إِلَى أنفس الْأفعال وجودا بِحَال.

.القَوْل فِي معنى الْحسن والقبح فِي حكم التَّكْلِيف:

اعْلَم، وفقك الله أَن الْحسن قد يُطلق وَالْمرَاد بِهِ اعْتِدَال الْخلق وتناصف الصُّور وتركب الْأَجْسَام... فِي الْعَادَات وَكَذَلِكَ الْقبْح يُطلق، وَالْمرَاد بِهِ ضد ذَلِك فِي الْخلق، وَهَذَا مَا لَا نقصد فِي هَذَا الْفَنّ. وَإِنَّمَا الْمَقْصد تَحْقِيق مَا يحسن فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف ويقبح.
فحقيقة الْحسن فِي حكم التَّكْلِيف إِذا كل فعل لنا الثَّنَاء شرعا على فَاعله بِهِ والقبيح كل فعل لنا الذَّم شرعا لفَاعِله بِهِ وَرُبمَا يعبر القَاضِي فِي تَحْقِيق الْحسن فَيَقُول مَا أمرنَا بمدح فَاعله. وَرُبمَا يتخالج فِي الصُّدُور من ذَلِك شَيْء فَإِن الْمُبَاح يُسمى حسنا وَلَا يتَحَقَّق توجه الْأَمر بمدح فَاعله والعبارة الَّتِي ارتضينا أَسد إِن شَاءَ الله.
ثمَّ الْحسن والقبح لَا يرجعان إِلَى وصف الْفِعْل وَحسنه وَإِنَّمَا يرجعان إِلَى حكم الرب شرعا على مَا سبق التَّفْصِيل فِي الحكم وَمَعْنَاهُ.
وَصَارَت الْمُعْتَزلَة إِلَى أَن قبح الْقَبِيح وصف رَاجع إِلَى ذَاته وَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُم صَارُوا إِلَى مثل ذَلِك فِي الْحسن فصرفوه إِلَى نفس الْفِعْل.
فَإِن قيل: قد أومأتم إِلَى معنى الْحسن والقبيح، فَمَا معنى قَول الْعلمَاء: هَذَا أحسن من هَذَا. وأقبح من هَذَا؟
قيل: قد ذكرنَا أَن معنى الْحسن إِنَّمَا هُوَ الْفِعْل الَّذِي ورد السّمع بتعظيم فَاعله وَحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ. فَالْأَحْسَن هُوَ الَّذِي يكون الثَّنَاء الْمَأْمُور فِيهِ أَكثر مِمَّا يُضَاف إِلَيْهِ. وَهَذَا مَنْهَج الأقبح فِي وَصفه.

.فصل:

لَا يدْرك بِمُجَرَّد الْعقل حسن وَلَا قبح على مَذْهَب أهل الْحق وَكَيف يتَحَقَّق دَرك الْحسن والقبح قبل وُرُود الشَّرَائِع مَعَ مَا قدمْنَاهُ من أَنه لَا معنى لِلْحسنِ والقبح سوى وُرُود الشَّرَائِع بالذم والمدح.
فالحسن إِذا على التَّحْقِيق هُوَ التحسين. وَذَلِكَ نفس الشَّرَائِع وَكَذَلِكَ الْقبْح يرجع إِلَى التقبيح. وَهُوَ عين الشَّرْع.
وأطبقت الْمُعْتَزلَة على أَن حسن الْمعرفَة وَالشُّكْر وقبح الكفران، وَالظُّلم وَغَيرهمَا مِمَّا يعدونه يدْرك بِالْعقلِ.
ثمَّ أطبقوا فِيمَا بَين أظهرهم على أَن الْحسن والقبح فِي هَذِه الْأُصُول يدْرك بضرورة الْعقل وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات، وَلَكنَّا نتمسك عَلَيْهِم بحرفين. أَحدهمَا: أَن نقُول أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن الْقبْح فِي الكفران وَالْحسن فِي الشُّكْر يدْرك اسْتِدْلَالا ونظرا، وتزعمون أَن ذَلِك مَعْلُوم ضَرُورَة. فَإِن زعمتم أَن ذَلِك يدْرك بطرق الْأَدِلَّة وَجب أَن تزعموا أَن من لم يسبر الْأَدِلَّة المفضية إِلَى إِدْرَاك الْحسن والقبح لَا يتَصَوَّر أَن يتَوَصَّل إِلَى إِدْرَاك ذَلِك. وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أبدا أَن الْعُقَلَاء بأجمعهم يعلمُونَ قبح الكفران وَالظُّلم وَالْكذب وَحسن الشُّكْر، من عرف الدَّلِيل مِنْهُم وَمن لم يعرفهُ، وَإِن أَنْتُم زعمتم أَنه مدرك ضَرُورَة فالعلوم الضرورية مِمَّا يَسْتَوِي فِيهَا الكافة عِنْد اسْتِوَاء أَسبَابهَا. وَنحن لَا ندرك مَا تزعمونه.
فَإِن قَالُوا: أَنْتُم تعلمُونَ الْقبْح وَالْحسن بيد أَنكُمْ تظنون أَنكُمْ تعرفونه سمعا وهما مدركان عقلا.
قُلْنَا: فَهَذَا ينعكس عَلَيْكُم.
فَيُقَال لكم وَأَنْتُم تعلمُونَ الْقبْح سمعا بيد أَنكُمْ تحسبونه مدْركا عقلا.
ثمَّ نقُول: لَو سلمنَا لكم أَنا نَعْرِف الْحسن وَصفا للْفِعْل ثمَّ خالفناكم فِي مدركه كَانَ يستتب لكم مَا سألتموه تَمامًا.
وَمن أصلنَا أَنا لَا نعلم بِالْعقلِ وَصفا هُوَ حسن أَو قبح. وَإِنَّمَا علمنَا وُرُود الشَّرَائِع... لكم ذَلِك ادعيتم اللّبْس بعده فِي الْمدْرك. وَهَذَا مَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ.
فَإِن قيل: الدَّلِيل على أَنه مدرك ضَرُورَة أَن كَافَّة الْعُقَلَاء متفقون فِي دركه فَمَا من عَاقل إِلَّا ويستحسن الشُّكْر ويستقبح الكفران.
قيل: فِي هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل هَذَا السُّؤَال اكمل الغنية فِي إبْطَال مَا أبديتموه، ثمَّ أَكثر مَا فِيهِ إِن سلم لكم مَا زعمتموه فَلَيْسَ فِيهِ استرواح.
فَإنَّا نجوز اتِّفَاق الْعُقَلَاء على مدركه بِالدَّلِيلِ. وَلَا يستبدع أَن يجمع الْبَريَّة على معرفَة الله تَعَالَى بِالدَّلِيلِ.
ثمَّ لَا يَقْتَضِي إِجْمَاعهم الْعلم الضَّرُورِيّ.
فَإِن قيل: لَو كَانَ إِدْرَاك الْحسن والقبح متوقفا على وُرُود الشَّرَائِع لما علم الْحسن والقبح من يعْتَقد بطلَان الشَّرَائِع. وَنحن نعلم أَن الدهرية والبراهمة يعلمُونَ الْحسن والقبح مَعَ جحدهم أصل الشَّرَائِع.
قُلْنَا: إِن كُنْتُم تعنون بالْحسنِ والقبيح مَا تميل إِلَيْهِ الطباع وتهواه النُّفُوس فِي غريزة الجبلات وتنفر عَنْهَا من اللَّذَّات والاهتزاز والفرح والآلام وضروب الضَّرَر والترح فَهَذَا مَا لَا نناقشكم فِيهِ: وَإِن كُنْتُم تعنون بالْحسنِ والقبح مَا يتَعَلَّق بالتكليف فهم لَا يعرفونه. وَإِن خيل لَهُم أَنهم يعرفونه فهم مقلدون غير موقنين. وَهَذَا كَمَا أَن الْعَوام الَّذين لم يسندوا العقائد إِلَى الْأَدِلَّة. وَلم يسبروها حق سبرها وَلم يميزوا بَين مواقع الشُّبْهَة والأدلة لَو قطعُوا آرابا مَا انتكصوا على أَعْقَابهم. وهم غير عارفين بِاللَّه تَعَالَى عِنْدهم فكم من مقلد يحْسب نَفسه عَالما وَالْأَمر على خلاف مَا يقدره.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِم أَن نقُول: إِذا زعمتم أَن قبح الْقَبِيح يدْرك عقلا فَلَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا: الْقبْح وصف من أَوْصَافه كحدوثه وَكَونه عرضا وكونا وفعلا إِلَى غَيرهَا من أَوْصَافه، أَو تَقولُوا: لَا يرجع ذَلِك إِلَى وَصفه فَإِن زعمتم أَن ذَلِك يرجع إِلَى وَصفه فَأول مَا يلزمكم عَلَيْهِ أَن يُقَال: أَلَيْسَ من حكم المثلين أَن يتساويا فِي كل الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة. وَلَا يجوز أَن يستبد أَحدهمَا بِوَصْف لَا يتَحَقَّق ثُبُوته للثَّانِي؟، فَإِذا قَالُوا: أجل وَلَا بُد مِنْهُ.
قيل لَهُم: فالقتل ابْتِدَاء فِي حسن الْقَتْل اقتصاصا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْء من الصِّفَات التابعة للوجود. فَوَجَبَ أَن يَكُونَا حسنين أَو قبيحين.
وعندكم يجب قبح أَحدهمَا وَحسن الثَّانِي مَعَ تماثلهما فِي حَقِيقَة الْفِعْل، فَدلَّ أَن الْقبْح لَا يرجع إِلَى تعْيين وصف الشَّيْء، وَإِذا بَطل هَذَا الْقسم واستحال صرفه إِلَى الْفِعْل وَجب صرفه إِلَى مصرف آخر وَلَا يعقل لَهُ مصرف سوى الْإِذْن وَالْأَمر الْمُتَعَلّق بِهِ بعد بطلَان الْقسم الأول. وَهَذَا هُوَ السّمع نَفسه. وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ واستقصاؤه فِي الديانَات.

.القَوْل فِي أَقسَام الْحسن والقبيح شرعا:

جملَة أفعال الْمُكَلّفين يحصرها قِسْمَانِ فِي حكم الشَّرْع أَحدهمَا مَا للمكلف فعله وَالثَّانِي مَا لَيْسَ لَهُ فعله.
وينقسم من وَجه آخر ثَلَاثَة أَقسَام مَأْمُور بِهِ ومنهي عَنهُ ومباح مَأْذُون فِيهِ.
فَأَما الْمَأْمُور بِهِ فينقسم إِلَى وَاجِب وَندب. والمنهى عَنهُ يَنْقَسِم إِلَى مَحْظُور محرم وَإِلَى مَكْرُوه.
وَأما الْمُبَاح فَلَا انقسام لَهُ. فَهَذِهِ أقسامها. وَنحن بعون الله نذْكر لكل وَاحِد من هَذِه الْأَقْسَام حدا وتحقيقا.
فَأَما الْمُبَاح فَإِن قيل: مَا حَده وَحَقِيقَته عنْدكُمْ؟
قيل: مَا ورد الْإِذْن من الله تَعَالَى فِي فعله وَتَركه من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ من غير تَخْصِيص أَحدهمَا باقتضاء ذمّ أَو مدح فَهَذَا حد سديد إِن شَاءَ الله تَعَالَى يُمَيّز الْمُبَاح عَن الْمُحرمَات والواجبات والمندوبات والمكروهات. ويميزه أَيْضا من الْأفعال قبل وُرُود الشَّرَائِع ويشمل نفي سمة الْإِبَاحَة عَن أفعال الْبَارِي سُبْحَانَهُ فَإِن الْإِذْن لَا يتَعَلَّق بهَا.
وَقد حد بعض من ينتمي إِلَى هَذَا الْفَنّ الْمُبَاح بِأَن قَالَ: مَا كَانَ فعله وَتَركه سيين.
وَهَذَا بَاطِل لِأَنَّهُ يُوجب كَون فعل الْقَدِيم سُبْحَانَهُ مُبَاحا فَإِن من أفعاله على الِاتِّفَاق مَا لَا يُربي على ضِدّه لَو قدر لوُجُود ضد فِي الْإِفْضَاء إِلَى الْمصَالح. وَجُمْلَة أفعال الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على مَذَاهِب أهل الْحق تتساوى فِي حكمه وَقد أطبقوا على اسْتِحَالَة وصفهَا بِالْإِبَاحَةِ.

.القَوْل فِي حد الْمَنْدُوب:

فَإِن قيل: فَمَا حد الْمَنْدُوب؟
قيل: هُوَ الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ الَّذِي لَا يلْحق الذَّم والمأثم شرعا على تَركه من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ ونتحرز بقولنَا من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ، عَن شَيْء، وَهُوَ أَنه لَو أقبل على ضد من أضداد الْمَنْدُوب إِلَيْهِ. وَهُوَ مَعْصِيّة فِي نَفسه فتلحقه اللائمة إِذا ترك الْمَنْدُوب إِلَيْهِ وَلَكِن لَا تلْحقهُ اللائمة من حَيْثُ أَن مَا بَدَأَ مِنْهُ ترك للمندوب إِلَيْهِ بل لعصيانه. وَقد حد بعض أصحابنَا بِأَنَّهُ مَا كَانَ فعله خيرا من تَركه من غير لائمة فِي تَركه، وَهَذَا يدْخل عَلَيْهِ شَيْء، وَهُوَ أَن من الْأفعال قبل وُرُود الشَّرَائِع مَا يكون خيرا للمرء فِي اقْتِضَاء لَذَّة وَدفع مضرَّة وَلَا يُسمى ندبا.
وَقد حد مُعظم الْقَدَرِيَّة النّدب بِأَن قَالُوا: مَا إِذا فعله فَاعله اسْتحق الْمَدْح والتعظيم بِفِعْلِهِ، وَلَا يسْتَحق الذَّم بِأَن لَا يَفْعَله.
وَهَذَا بَاطِل فَإِن تفضل الرب تَعَالَى يَتَّصِف بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي ذكروها وَلَا يُسمى ندبا حَتَّى يُقَال: الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْدُوب إِلَى التفضل محثوث عَلَيْهِ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى إِطْلَاقه. وَلَو سَاغَ تَسْمِيَة بعض أفعاله ندبا لساغ تَسْمِيَة بَعْضهَا مُبَاحا.

.القَوْل فِي حد الْوَاجِب وَمَعْنَاهُ:

فحد الْوَاجِب كل مَا ورد الشَّرْع بالذم بِتَرْكِهِ من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ وَهَذَا حد مُسْتَقل بِنَفسِهِ ويندرج تَحت قَوْلنَا من حَيْثُ هُوَ ترك لَهُ مَا أومأنا إِلَيْهِ فِي حد الْمُبَاح وَالنَّدْب.
وَمِمَّا ينْدَرج تَحْتَهُ أَن الصَّلَاة إِذا وَردت مُؤَقَّتَة بِوَقْت متسع. وَقُلْنَا إِنَّهَا تجب بِأول الْوَقْت فَلَا يتَحَقَّق تَركهَا على مُقْتَضى الْأَمر إِلَّا بِانْقِضَاء جَمِيع الْوَقْت. وسنشبع القَوْل فِي ذَلِك بعد هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.مسألة: الْوَاجِب وَالْفَرْض:

وَالْفَرْض فزعموا أَن كل فرض وَاجِب وَرب وَاجِب لَا يُسمى فرضا.
ولورد فصلهم بَين العبارتين إِلَى التَّحْقِيق لم يبْق وَرَاءه طائل، فاستند قَوْلهم إِلَى دَعْوَى غير مقترنة ببرهان فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نعكس عَلَيْهِم كَلَامهم ونقلب عَلَيْهِم مرامهم فَنَقُول بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن كل وَاجِب مَفْرُوض. وَلَيْسَ كل فرض وَاجِبا على الضِّدّ مِمَّا أَطْلقُوهُ. ومدارك الْعُلُوم معقولة مضبوطة فَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يَقْتَضِي هَذَا التَّفْصِيل. وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يُوجب وَلَيْسَ فِي وضع اللُّغَات فصل بَين الْمَفْرُوض وَالْوَاجِب نصا. وَإِن ردوا ذَلِك إِلَى اشتقاق الاسمين من قَضِيَّة أَصلهمَا انتسبوا إِلَى إِثْبَات اللُّغَات قِيَاسا ونفيها بطرِيق الْقيَاس. وسندل على بطلَان ذَلِك إِن شَاءَ الله عز وَجل.
ثمَّ الْفَرْض أَصله فِي اللُّغَة الْقطع. وَمِنْه تسمى الحزة الَّتِي تَسْتَقِر فِيهَا عُرْوَة الْوتر فرضة. وَقد يرد الْفَرْض بِمَعْنى التَّقْدِير فِي كثير من الْمَوَاضِع.
وَأما الْوُجُوب فأصله من قَوْلهم: وَجب الْحَائِط إِذا سقط، وَوَجَبَت الشَّمْس إِذا سَقَطت وأفلت وَلَعَلَّ الْوُجُوب فِي أصل اشتقاقه أقرب إِلَى التَّأْكِيد من الْفَرْض فَتبين أَنهم مَا استروحوا فِي تفصيلهم وتخصيصهم إِلَّا إِلَى التشهي وَالتَّمَنِّي.
ثمَّ يُقَال لَهُم فصلوا مذهبكم فِيمَا هُوَ الْوَاجِب والمفروض؟ فَإِن قَالُوا مَا علم وُجُوبه من طَرِيق غير مَقْطُوع بِهِ عَن الله تَعَالَى فَهُوَ الْوَاجِب. والمفروض مَا علم وُجُوبه من طَرِيق مَقْطُوع بِهِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ لَا تَحْقِيق وَرَاءه فَإِنَّهُم قَالُوا: مَا علمْتُم وُجُوبه بطرِيق غير مَقْطُوع فَهُوَ وَاجِب وَهَذَا تنَاقض من القَوْل. فَإِن الطَّرِيق المفضي إِلَى الْعلم بِالْوُجُوب إِذا كَانَ غير مَقْطُوع بِهِ فَلَا يَقْتَضِي الْعلم فَإِن الْعلم لَا يثبت إِلَّا مَقْطُوعًا بِهِ. فَكيف يَتَرَتَّب على مَا لايقطع بِهِ.
فَإِن قيل: إِذا اتَّصل بِنَا خبر الْوَاحِد فنعلم وجوب الْعَمَل بِهِ. وَإِن كُنَّا لَا نستيقن صِحَّته.
قُلْنَا: من هَذَا زللتم فاعلموا أَنه لَا يجب الْعَمَل بِمُقْتَضى خبر الْوَاحِد من خبر الْوَاحِد. وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ بِدلَالَة قَاطِعَة تَتَضَمَّن الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فاستند الْعلم بِوُجُوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِلَى دلَالَة قَطْعِيَّة فَهَذَا لَو ناقشناهم.
ثمَّ نقُول قد أثبتم الْفَرْضِيَّة فِي مسَائِل مَعَ انْتِفَاء أَدِلَّة الْقطع فِيهَا اختصاصا مِنْهَا: إِنَّكُم أوجبتم الْوضُوء على من افتصد وَلم ترجعوا فِي ذَلِك إِلَى دلَالَة تقطعون بهَا.
ثمَّ لَا تتحاشون من إِطْلَاق القَوْل بِأَن الطَّهَارَة فِي هَذِه الْحَالة مَفْرُوضَة. وفرضتم الصَّلَاة على الَّذِي بلغ فِي الْوَقْت بعد مَا أدّى الصَّلَاة وفرضتم إتْمَام الصَّلَاة على من ينحط مبلغ سَفَره عَن مرحلَتَيْنِ وفرضتم الْعشْر فِي غير الأقوات، وَفِي الأقوات فِيمَا دون خَمْسَة أوسق إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتَعَذَّر تعديده مَعَ انْتِفَاء أَدِلَّة الْقطع.
ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يقلب عَلَيْكُم مَا مهدتموه فَيَقُول كل مَا لم يسْتَند إِلَى مَقْطُوع فَهُوَ فرض وَلَيْسَ بِوَاجِب. وكل مَا اسْتندَ إِلَى قطع فيتصف بالوصفين جَمِيعًا.
وَقد حُكيَ عَن بَعضهم أَن الْفَرْض مَا يثبت بِنَصّ الْقُرْآن. وَالْوَاجِب الَّذِي لَا يُسمى فرضا مَا يثبت عَن غير وَحي مُصَرح بِهِ.
وكل مَا قدمْنَاهُ ينْقض عَلَيْهِم ذَلِك.

.القَوْل فِي وصف الْفِعْل بِأَنَّهُ مَكْرُوه:

اعْلَم، وفقك الله أَن القَوْل فِي ذَلِك يَنْقَسِم، فَرُبمَا تطلق الْكَرَاهِيَة وَالْمرَاد بهَا مَا نهي عَنهُ تَنْزِيها وندبا إِلَى تَركه كَقَوْلِنَا يكره ترك النَّوَافِل.
وَمن الْفُقَهَاء من لَا يطلقهَا فِي مثل ذَلِك. وَلَكِن يَقُول إِذا غمضت الْأَدِلَّة وصعب مدركها فاقتحام موقع اللّبْس مَكْرُوه مَعَ تَجْوِيز العثور على عين الْحق.
وَلنْ يتَبَيَّن الْمَقْصد من هَذَا الْبَاب إِلَّا بإيضاح أصل. وَهُوَ أَن تعلم أَن مَا يُسمى مَكْرُوها فِي تواضع الْفُقَهَاء، فَلَا يَتَّصِف بِكَوْنِهِ محرما بل يتَمَيَّز الْمَكْرُوه عَن قبيل الْمُحرمَات كَمَا يتَمَيَّز عَن الْمُبَاحَات والواجبات. وَكَذَلِكَ لَا سَبِيل إِلَى الْمصير إِلَى أَن الْمَكْرُوه مَا شككنا فِي تَحْرِيمه فَإِن من الْأَشْيَاء مَا يتَّفق الْعلمَاء على كَونه مَكْرُوها مَعَ علمنَا باستحالة تشكك الكافة فِي دَرك التَّحْرِيم وَلَو سوغنا اسْتِمْرَار اللّبْس فِي حكم من الْأَحْكَام على عُلَمَاء الْإِسْلَام تداعى ذَلِك إِلَى نقض الْأَحْكَام فَبَطل الْمصير إِلَى ذَلِك.
وَإِنَّمَا قصدنا بذلك الرَّد على طَائِفَة من محققينا لما قَالُوا فِي حَقِيقَة الْمَكْرُوه مَا يخْشَى عَلَيْهِ اللوم فَيُقَال لَهُم: مَا يتَحَقَّق اسْتِحْقَاق اللوم عَلَيْهِ فَهُوَ محرم قطعا فَكَانَ محصول هَذَا القَوْل بِأَنَّهُ يخْشَى عَلَيْهِ اللوم أَنه يجوز تَقْدِير حَقِيقَة التَّحْرِيم فِيهِ وَهَذَا مصير إِلَى اللّبْس وَهُوَ وَاضح الْبطلَان وَالَّذِي يُوضح القَوْل فِي ذَلِك أَن نقُول: إِذا فَرضنَا الْكَلَام فِي مَكْرُوه فنقسم القَوْل فِيهِ ونقول: يَسْتَحِيل الْمصير إِلَى أَنه مُبَاح لما سبق من الْكَلَام فِي حد الْمُبَاح ويستحيل الْمصير إِلَى أَنه محرم، ويستحيل الْمصير إِلَى أَنه مَشْكُوك فِي تَحْرِيمه فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق بعد بُطْلَانهَا إِلَّا الْمصير إِلَى أَنه مَنْدُوب إِلَى تَركه. ومأمور بِتَرْكِهِ غير ملوم على فعله.
ثمَّ قد بَينا أَن قضايا الشَّرْع قد تتزايد فَيُقَال هَذَا أحسن وَهَذَا أقبح. وَلَكِن وَإِن تزايدت فَلَا تخرج عَن أصل الْحَقَائِق فقد يتَأَكَّد الْأَمر بترك الْمَكْرُوه وَلَا يُخرجهُ ذَلِك عَن الْحَقِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا.

.فصل:

فَإِن قيل: إِذا تحقق وُقُوع الْفِعْل فَهَل تَقولُونَ إِنَّه مَكْرُوه لله؟
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا نتحاشى مِنْهُ فَإِن الرب عز اسْمه موجد الْأفعال ومخترعها فَلَا يُوجد إِلَّا مَا يُرِيد فإطلاق القَوْل بِأَن الْفِعْل الْوَاقِع مَكْرُوه لَهُ زلل. وَلَكِن يفصل القَوْل فِيهِ فَيُقَال كره الله وُقُوعه من أوليائه وأنبيائه أَو كره وُقُوعه طَاعَة وَعبادَة، فَأَما كَرَاهِيَة أصل الْوُجُود مَعَ تحقق الْوُجُود فَبَاطِل.

.القَوْل فِي معنى الصَّحِيح وَالْفَاسِد:

إِذا أطلقنا لفظ الصَّحِيح وَالْفَاسِد فِي الْعِبَادَات وَمَا ضاهاها من أفعال الْمُكَلّفين فنعني بِالصَّحِيحِ الْوَاقِع على وَجه يُوَافق مُقْتَضى الشَّرِيعَة ونعني بالفاسد الْوَاقِع على وَجه يُخَالف قَضِيَّة الشَّرْع.
وَلَيْسَ يُنبئ الْفساد على مَا نرتضيه عَن لُزُوم قَضَاء مثله، وَكَذَلِكَ لَا تَتَضَمَّن الصِّحَّة نفي وجوب الْقَضَاء.
وَذهب بعض من يعتزي إِلَى الْأُصُول من الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْفَاسِد الْبَاطِل مَا يجب قَضَاؤُهُ فتلزم إِعَادَته، وَالصَّحِيح مَا تَبرأ الذِّمَّة بِفِعْلِهِ، وَلَا يلْزم قَضَاؤُهُ وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك لزلل فِي أصل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة فِي الْبقْعَة الْمَغْصُوبَة صَحِيحَة عِنْد هَذَا الْقَائِل وَهِي وَاقعَة على خلاف مقتضي الشَّرِيعَة. فَالْمَعْنى بِصِحَّتِهَا أَنه لَا يجب قَضَاؤُهَا وَإِن كَانَت مَعْصِيّة وسنستقصي القَوْل فِي ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَإِذا أطلقنا الصِّحَّة فِي الْعُقُود والشهادات والأقارير فَمَعْنَاه ثُبُوتهَا على مُوجب الشَّرْع. وتوفر قضاياها عَلَيْهَا كالأملاك المترتبة على الْعُقُود وَغَيرهَا من الْمَقَاصِد. وَالْفَاسِد على الْعَكْس من ذَلِك.

.القَوْل فِي حصر أصُول الْفِقْه وترتيبها وَتَقْدِيم الأول مِنْهَا على الْجُمْلَة:

ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب جملَة أصُول الْفِقْه وأدلة الشَّرْع فَأَوْمأ إِلَى مراتبها وَوجه تَقْدِيم بَعْضهَا على بعض فِي تَرْتِيب الْكتاب.
فأولها: الْخطاب الْوَارِد فِي الْكتاب وَالسّنة وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من تَرْتِيب مقتضيات الْخطاب.
وَالثَّانِي: معرفَة أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاقِعَة موقع الْبَيَان.
وَثَالِثهَا: الْأَخْبَار ومراتبها. وَمِنْهَا أَخْبَار الْآحَاد.
وَرَابِعهَا: الْإِجْمَاع.
وخامسها: الْقيَاس.
ثمَّ إِذا ترتبت هَذِه الْأُصُول وتمهدت أَبْوَابهَا ننعطف على وصف الْمُفْتِي والمستفتي والتقليد، ثمَّ نوضح انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع.
فَإِن قيل: ذكرْتُمْ السّنة مَعَ خطاب الْكتاب فِي صدر الْأَدِلَّة، ثمَّ ذكرْتُمْ الْأَخْبَار فِي دَرَجَة أُخْرَى فَمَا الْوَجْه فِيهِ؟
قيل: أما مَا يثبت عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا فَيعلم أَن الْمُقْتَضى للْحكم نفس السّنة. وَهُوَ الْمَذْكُور فِي صدر الْأَدِلَّة.
وَأما الْخَبَر الَّذِي أطلقنا فِي الرُّتْبَة الْأُخْرَى فَهُوَ مَا ينْقل آحادا فَلَا يمكننا أَن نقُول يثبت الحكم بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي مَشْكُوك فِيهَا فَالْحكم لَيْسَ ثَابتا تَحْقِيقا فَقُلْنَا: يثبت الحكم الْمخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسمينا هَذَا الْقَبِيل خَبرا وسمينا مَا تقدم سنة.
ثمَّ ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وجوب تَرْتِيب هَذِه الْأَدِلَّة على التَّرْتِيب وَلَا تعظم الْفَائِدَة فِي الإطناب فِيهَا. وَسَيَأْتِي فِي حقائق الْأَدِلَّة مَا يُغني عَنْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.القَوْل فِي اللُّغَات وَإِنَّهَا تثبت مواضعة أَو توقيفا:

اخْتلف النَّاس فِي مَأْخَذ اللُّغَات فَذهب بَعضهم إِلَى أَن كل اللُّغَات تثبت توقيفا ووحيا من الله تَعَالَى. وَلَا يسوغ ثُبُوتهَا إِلَّا توقيفا.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن كل اللُّغَات تثبت مواطأة ومواضعة وَاصْطِلَاحا. وَذهب بَعضهم إِلَى أَن بَعْضهَا يثبت توقيفا وَبَعضهَا اصْطِلَاحا.
والمرتضى عندنَا من الْمذَاهب أَنه يسوغ فِي الْعقل أَن تثبت كلهَا توقيفا وَيجوز أَن يثبت بَعْضهَا توقيفا وَبَعضهَا اصْطِلَاحا. وَيجوز أَن تثبت كلهَا اصْطِلَاحا وَيجوز أَن يسْبق من الله تَعَالَى تَوْقِيف على لُغَة من اللُّغَات.
ثمَّ تتفق الْمُوَاضَعَة من أَقوام على لُغَة توَافق مَا تثبت توقيفا. وكل ذَلِك من جائزات الْعُقُول ثمَّ كل مَا يثبت توقيفا من الله تَعَالَى سمعا فالسمع مُتبع فِيهِ وَالَّذِي يدل على ثُبُوت جَمِيعهَا عَن تَوْقِيف أَن الرب عز اسْمه مَوْصُوف بالاقتدار على أَن يخلق فِينَا علوما ضَرُورِيَّة بمقاصد اللُّغَات. ومضمون الْعبارَات حَتَّى إِذا علمنَا مِنْهَا مَا نستقل بِهِ فِي التفاهم أوقفنا على بَقِيَّة اللُّغَات وَحيا أَو إلهاما. وَهَذَا أوضح أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى زِيَادَة إِيضَاح وكشف.
فَإِن قيل: فَكيف نفهم أول مَا يخاطبنا الله تَعَالَى بِهِ وَلم يسْبق تعارف؟
قيل: يضطرنا إِلَى مَعْرفَته. فالرب مقتدر على مَا يَشَاء. وكل مَا يجوز حُدُوثه وَكَونه فَهُوَ من قبيل المقدورات وَهَذَا بَين لاخفاء بِهِ.
وَالدَّلِيل على تَصْوِير ثُبُوت اللُّغَات بالمواضعات من غير تقدم تَوْقِيف فِي شَيْء مِنْهَا: أَن أَرْبَاب الْأَلْبَاب لَا يَسْتَحِيل اقتدارهم على أَجنَاس اللُّغَات فَإِنَّهَا فِي التَّحْقِيق رَاجِعَة إِلَى ضروب من الْأَصْوَات، وَلَا يستبعد انصرافهم بدواعيهم إِلَى مَا يتفاهمون بِهِ عَمَّا يغيب وَيشْهد ثمَّ يكررون الْأَصْوَات الْمُقطعَة على المسميات، ويقترن بهَا قَرَائِن الْأَحْوَال فتتمهد اللُّغَات على هَذَا الْمنْهَج وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنا نرى الخرس يستقلون بالتواضح على ضروب من الإشارات وَنصب الأمارات يتفاهمون بهَا مقاصدهم وَإِن لم يتعلموها. وَلَو أَن طَائِفَة من الخرس أفردوا عَن أضرابهم قبل أَن يبلغُوا مبلغ التَّمْيِيز.
فَإِذا بلغُوا ومست حَاجتهم إِلَى التفاهم لم يستبدع مِنْهُم أَن يبلغُوا ويتوصلوا إِلَى وضع أَمَارَات يتلقون بهَا مَا يتلَقَّى أهل اللِّسَان من لغاتهم ثمَّ إِذا تقرر مَا ذكرنَا جَوَازه إِلَى الْكل فَوجه تَقْدِيره وتصويره فِي الْبَعْض هَين.
فَإِذا تحقق ذَلِك فَمَتَى قَامَت دلَالَة سمعية على أَن بعض اللُّغَات يثبت توقيفا أَو تواضعا اتَّبعنَا السّمع فِيهِ مَعَ أَنا نجوز عقلا مَا نطق بِهِ السّمع وَكَانَ يجوز غَيره أَيْضا.
فَإِن تمسك الصائرون إِلَى أَن اللُّغَات لَا تثبت إِلَّا توقيفا بقوله عز وَجل: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا}.
قُلْنَا: لَو سلم لكم أَن اللُّغَات تثبت توقيفا لم يكن ملْجأ لكم فِيهِ، فَإنَّا نجوز ثُبُوتهَا سمعا وتوقيفا، ونجوز غَيرهمَا. وَأَنْتُم تَزْعُمُونَ أَنه يَسْتَحِيل أَن تثبت إِلَّا توقيفا. وَلَيْسَ فِي هَذِه الْآيَة مَا يتَضَمَّن اسْتِحَالَة ثُبُوت اللُّغَات تواضعا.
ثمَّ نقُول: مَضْمُون الْآيَة أَن الله تَعَالَى علم آدم الآسماء كلهَا.
فَمَا الدَّلِيل على أَن الْأَسْمَاء ثبتَتْ ابْتِدَاء عِنْد تَعْلِيم الله آدم. فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنَّهَا كَانَت ثَابِتَة بتواضع أمة من أُمَم الله تَعَالَى.
فعلمها الله عز وَجل آدم. وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة قبل آدم كَانُوا يتفاهمون ويتخاطبون وَقد خاطبهم الله تَعَالَى فِي أَمر آدم قبل خلق آدم فَقَالَ: {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} فَبَطل الاسترواح إِلَى الْآيَة.

.القَوْل فِي معنى الْمُحكم والمتشابه:

قد أَكثر أهل التَّفْسِير فِي ذَلِك. فَمنهمْ من قَالَ: الْمُحكم فِي كتاب الله تَعَالَى مَا اتَّصَلت حُرُوفه. والمتشابه مِنْهُ مَا انفصلت حُرُوفه.
يعنون بذلك الْحُرُوف الْمُقطعَة وحروف التهجئ فِي أَوَائِل السُّور. نَحْو ألم، وطسم، وَنَحْوهمَا. وَتَخْصِيص الْمُتَشَابه بذلك محَال فَإِن الْكَلِمَات رُبمَا تتصل وَلَا تستقل بِنَفسِهَا فِي إِفَادَة الْمعَانِي. وتتردد بَين احتمالات وجائزات وتعد متشابهة أوغير محكمَة. فَبَطل الْمصير إِلَى ذَلِك مَعَ أَن الْعَرَب قد تتفاهم الْمعَانِي الصَّحِيحَة بِأَن تذكر الْحُرُوف الْمُقطعَة من الْكَلِمَة اسْتِدْلَالا بهَا على الْكَلِمَات. وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن تَنْزِيل الْمُحكم والمتشابه على محمل مَعْلُوم مِمَّا لَا يدْرك عقلا وَلم يرد فِيهِ نَص سمع يستروح إِلَيْهِ ولكنهما عبارتان من لُغَة الْعَرَب فَالْأولى أَن نردهما على قَضِيَّة اللُّغَة عِنْد الْإِطْلَاق، والتخصيص للمتشابه بالحروف الْمُقطعَة مِمَّا لَا تَقْتَضِيه اللُّغَة عِنْد الْإِطْلَاق.
وَمن الْمُفَسّرين من قَالَ: الْمُحكم مَا يَصح أَن يعرف مِنْهُ مَا يُعلمهُ الله والمتشابه مَا اسْتَأْثر الله بِعلم مَعْنَاهُ. وَهَذَا أَيْضا غير سديد. فَإِن اللُّغَة لَا تنبئ عَنهُ وَرب كَلَام يفهم مَعْنَاهُ وَلكنه متناقض فَلَا يتَبَيَّن معنى يطْلب مِنْهُ فِي نظم الْكَلَام وَلَا يُسمى محكما. وَإِن كَانَ الْمَفْهُوم الْمَعْنى على تناقضه وبطلانه، وَتَخْصِيص الْمُتَشَابه بِأَنَّهُ الَّذِي يستأثر الله بِعلم مَعْنَاهُ مِمَّا لَا تَقْتَضِيه اللُّغَات.
وَقَالَ بَعضهم: الْمُحكم هُوَ الْوَعْد والوعيد وَالْأَحْكَام وتفصيل الشَّرَائِع، والمتشابه الْقَصَص وسير الْأَوَّلين. فاللغة لَا تشهد لذَلِك.
والسديد أَن نقُول الْمُحكم هُوَ السديد النّظم وَالتَّرْتِيب الَّذِي يُفْضِي إِلَى إثارة الْمعَانِي القويمة المستقيمة من غير تنَاقض وَلَا تناف.
والمتشابة هُوَ الَّذِي لَا يُحِيط الْعلم بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوب بِهِ من حَيْثُ اللُّغَة إِلَّا أَن تقترن بهَا أَمارَة، وقرينة.
ويندرج تَحت ذَلِك الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة بَين الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة من الْقُرْء وَغَيرهَا. وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يعرف من اللُّغَة وَقَضِيَّة اللِّسَان.
ثمَّ الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يتَعَلَّق بعبارات لَا طائل لَهَا.

.القَوْل فِي تَقْسِيم الْخطاب وَمَا يفِيدهُ:

اعْلَم، أَن الْعبارَات الْمَوْضُوعَة للأنباء عَن الْكَلَام ونطق الْقلب ومضمون الأفئدة تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام.
فقسم مِنْهَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الْكَشْف عَن جَمِيع مُقْتَضَاهُ وَمَعْنَاهُ ومتضمنه من كل وَجه فَلَا احْتِمَال فِي شَيْء من مَعَانِيه.
وَالْقسم الثَّانِي: مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي بعض مَعَانِيه من وَجه وَلَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي بعض الْوُجُوه.
وَالْقسم الثَّالِث: مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي شَيْء من الْمعَانِي الْمَطْلُوبَة مِنْهُ.
فَأَما مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من كل وَجه قصد بِهِ. فَهُوَ يَنْقَسِم قسمَيْنِ فَمِنْهُ مَا يسْتَقلّ بِمَعْنَاهُ نصا وإفصاحا ونطقا. وَمِنْه مَا يسْتَقلّ بمعانيه الملتمسة وبلحنه وفحواه وَمَفْهُومه.
فَأَما الَّذِي يسْتَقلّ بِنَفسِهِ نصا فنحو قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد}. وَقَوله: {مُحَمَّد رَسُول الله} وَألْحق بِهَذَا الْقَبِيل {وَلَا تقربُوا الزِّنَى} {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم} فَهَذِهِ وأمثالها نُصُوص فِي مَعَانِيهَا سميت نصوصا لظهورها، من قَوْلهم نصت الظبية إِذا عنت وَظَهَرت، وَمِنْه قيل للكرسي الَّذِي يجلس عَلَيْهِ الْعَرُوس منصة.
وَأما مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ من حَيْثُ اللّحن والفحوى فنحو قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} فالتأفيف مُصَرح بِهِ لفظا. وَتَحْرِيم الضَّرْب والتعنيف مَفْهُوم من لحنه وفحواه نصا بِحَيْثُ لَا يستريب فِيهِ كَمَا لَا يستريب فِي مَفْهُوم الْأَلْفَاظ الْمُصَرّح بهَا. وَذكر فِي القبيلين نصا ولحنا أَمْثِلَة من كتاب الله تَعَالَى. وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم .
وَالْجُمْلَة الجامعة لَهَا أَن كل لَفْظَة وضعت فِي اللُّغَة بِمَعْنى على التَّجْرِيد والتقرير، لَا يتفاهمون على الْإِطْلَاق إِلَّا ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا تتقابل فِيهِ جِهَات الِاحْتِمَالَات فَهُوَ نَص فِيهِ صَرِيحًا أَو لحنا.
ثمَّ يلْتَحق بِهَذَا الْقَبِيل مَا يحذف من الْكَلَام لدلَالَة الْبَاقِي على الْمَحْذُوف وَلَكِن لَا تستريب الْعَرَب فِي مَعْنَاهُ. وَذَلِكَ كَمثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} فَمَعْنَاه فافطر. فَهَذَا مِمَّا يفهم نصا من مقصد الْخطاب. وَكَذَلِكَ قَوْله: {أضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} مَعْنَاهُ فَضرب فانفلق، إِلَى غير ذَلِك.
فَأَما مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي بعض الْمعَانِي دون بعض فنحو قَوْله: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} فالحصاد مَعْلُوم وَالْأَمر بالإتيان مَعْلُوم وَحقه غير مُسْتَقل بِنَفسِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} فالقتل مَعْلُوم، والمشرك مَعْلُوم، واستغراق جنس الْمُشْركين اَوْ تَخْصِيص بعض آحادهم مِمَّا لَا يسْتَقلّ الْخطاب بِهِ إِذا نَفينَا صِيغَة الْعُمُوم وَآثرنَا الْوَقْف كَمَا سنذكر إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إثارة شَيْء من الْمعَانِي فَهُوَ المجملات وَالْمجَاز على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِه الْأَقْسَام بأبوابها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.القَوْل فِي معنى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز والفصل بَينهمَا:

قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: الْحَقِيقَة تطلق وَيُرَاد بهَا خَاص وصف الشَّيْء الَّذِي يتَمَيَّز ويوافق ويماثل وَهُوَ حَده عَنهُ. وَذَلِكَ كَمَا يُقَال حَقِيقَة الْعَالم من قَامَ بِهِ الْعلم. وَحَقِيقَة الْجَوْهَر المتحيز إِلَى غير ذَلِك. وَهَذَا مَا لَا نطلبه فِي مَضْمُون هَذَا الْبَاب.
وَقد تطلق الْحَقِيقَة فِي اللُّغَات ومجاري المحاورات فَهَذَا مقصدنا من هَذَا الْبَاب. فَإِذا قُلْنَا هَذِه الْعبارَة حَقِيقَة فِي هَذَا الْمَعْنى فَمَعْنَاه أَنَّهَا مستعملة فِيمَا وضعت فِي أصل وضع اللُّغَة لَهُ فَهَذَا مَا نريده بِالْحَقِيقَةِ.
فَأَما الْمجَاز فَهُوَ مَا اسْتعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ فِي أصل وضع اللُّغَة.
وَيُسمى هَذَا الضَّرْب مجَازًا لِأَن أهل اللُّغَة يتجاوزون بِهِ عَن أصل الْوَضع توسعا مِنْهُم. وَذَلِكَ نَحْو تسميتهم الشجاع البطل من الرِّجَال أسدا والبليد حمارا والأسد فِي أصل الْوَضع لحيوان مَعْلُوم بيد أَنهم قد أَطْلقُوهُ توسعا على من يتخصص بشاعته وجرأته، وعدوا من هَذَا الْقَبِيل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {جدارا يُرِيد أَن ينْقض} فإضافة الْإِرَادَة إِلَى الْجِدَار لَيْسَ فِي أصل وضع اللُّغَة بل هُوَ من الْمجَاز وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة.
وَقد عد بعض أَئِمَّتنَا قَوْله تَعَالَى: {وَسُئِلَ الْقرْيَة} من هَذَا الْقَبِيل فَإِن الْمَعْنى بالقرية أهل الْقرْيَة. وَمن أصحابنَا من عد ذَلِك من قبيل الْمجَاز. وَزعم أَن الْقرْيَة وضعت مَوضِع أهل الْقرْيَة وعنى بهَا نَفسهَا أَهلهَا تجوزا.
وَمِنْهُم من قَالَ هَذَا وَأَمْثَاله من الْمُضْمرَات. وَلَا نقُول أُقِيمَت الْقرْيَة مقَام أَهلهَا بل حذف من الْخطاب ذكر أهل الْقرْيَة لدلَالَة بَقِيَّة الْخطاب عَلَيْهِ. وأبواب الْإِضْمَار والحذف لَا يلْتَحق بالمجازات. فَإِن الْمجَاز لَفْظَة مستعملة فِي غير مَا وضعت لَهُ.
وَكَذَلِكَ من أَئِمَّتنَا من صَار إِلَى أَن قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} فَقَالَ: الْكَاف والمثل تجوزا وتوسعا، وَهَذَا الْقَائِل يَقُول من ضروب الْخطاب مَا يلْتَحق بالمجاز لنُقْصَان شَيْء مِنْهُ كَمَا قدمْنَاهُ. وَمِنْه مَا يلْتَحق بِهِ لزِيَادَة شَيْء فِيهِ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ كمثله شَيْء}.
ونرى القَاضِي يمِيل إِلَى عد ذَلِك من قبيل الْمجَاز.
ويلتحق بذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جزاؤا الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله}.
مَعْنَاهُ أهل الله ومصدقيه ومتبعي شرائعه.
فَكل كَلَام وضع فِي أصل اللُّغَة فَإِذا نقص مِنْهُ شَيْء مَعَ اسْتِبْقَاء تَمام المُرَاد فَهُوَ مجَاز. فَإِنَّهُ من هَذَا الْوَجْه معدول عَن أصل الْوَضع وَكَذَلِكَ الزِّيَادَة وَهَذَا لعمري سديد.

.فصل:

اعْلَم أَنا نتبع وضع اللُّغَة فِي الْحَقَائِق وَاسْتِعْمَال أَهلهَا فِي التجوزات والتوسعات فَلَا يسوغ لنا أَن نتعدى فِي المجازات مَوَاضِع استعمالهم كَمَا لَا يجوز لنا أَن نتعدى أصل الْوَضع فِي الْحَقَائِق.
وَقد ذكر رَضِي الله عَنهُ فصلا نَحن ذاكروه. وَهُوَ أَنه... الْحَقِيقَة تتعدى إِلَى جَمِيع مَا وضعت لإفادته وَإِن لم تصادف جَمِيعهَا منصوتة لَهُم.
وَبَيَان ذَلِك أَنهم لما سموا من يصدر مِنْهُ الضَّرْب منا ضَارِبًا فيطلق اسْم الضَّارِب على من يصدر مِنْهُ الضَّرْب من الضاربين. وَإِذا نقل عَنْهُم واسئل الْقرْيَة والرباع والأطلال على إِرَادَة أَهلهَا فَلَا يعدى ذَلِك عَن مورده حَتَّى نقُول واسأل الدَّوَابّ. ونعني أَهلهَا. وَهَذَا سديد، وَلَكِن لَو رد إِلَى التَّحْقِيق لم يقتض كَبِير معنى فَإِن الأَصْل أننا فِي الْحَقَائِق نتبع أصل الْوَضع، وَفِي الْمجَاز نتبع اسْتِعْمَال أهل اللُّغَة.
وَإِنَّمَا نسمي كل من يصدر مِنْهُ الضَّرْب ضَارِبًا متبعين لَا قائسين وَلَا معتبرين فَإِن الصَّحِيح عندنَا منع الْقيَاس فِي اللُّغَات وَلَكِن ثَبت بِأَصْل الْوَضع نصا أَنهم مَا خصصوا الضَّارِب بِجِنْس بل سموا كل من يصدر مِنْهُ الضَّرْب ضَارِبًا. وَلَو ثَبت عندنَا استعمالهم نصا أَن كل مَا ينتسب إِلَى أهل وَمَال يعبر عَن صَاحبه مجَازًا لأطلقنا ذَلِك عُمُوما كَمَا أطلقناه فِي الضَّارِب وَنَحْوه من حقائق اللُّغَات. فَدلَّ أَن محصول الْكَلَام منع الْقيَاس فِي اللُّغَات وَيتبع الْوَضع فِي الْحَقَائِق والاستعمال فِي الْمجَاز من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان.
ثمَّ ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ طرقا تنفصل بهَا الْحَقَائِق عَن الْمجَاز، بَعْضهَا اتِّفَاق فِي بعض الْمَوَاضِع غير مطرد فِي الْبَابَيْنِ عُمُوما.
فَأول مَا ذكره فِي الْفَصْل بَينهمَا مَا فَرغْنَا مِنْهُ آنِفا فِي أَن الْحَقِيقَة تعدِي عَن موضوعها اتبَاعا لما راموا من الْفَائِدَة فِيمَا نصوا عَلَيْهِ. كالضارب وَنَحْوه بِخِلَاف الْمجَاز. وَقد أشبعنا القَوْل فِيهِ.
وَالثَّانِي أَن مَا وضع حَقِيقَة تشتق مِنْهُ. وَاسْتِعْمَال الِاشْتِقَاق يجْرِي فِيهِ. وَإِذا اسْتعْمل مجَازًا لم يجر فِيهِ الِاشْتِقَاق.
وَبَيَان ذَلِك أَن حَقِيقَة الْأَمر فِي أصل الْوَضع اقْتِضَاء الْفِعْل من الْمَأْمُور على مَا سنبينه.
ثمَّ قد يسْتَعْمل فِي الشَّأْن.
فَيُقَال كَيفَ شَأْنك وأمرك. وَهُوَ مجَاز فِي معنى الشَّأْن فَلَا جرم، واشتق من الْأَمر الَّذِي يضاد النَّهْي وَسَائِر مَا يصدر عَن المصادر، وَإِذا اسْتعْمل فِي الشَّأْن لم تصدر عَنهُ النعوت وَالْأفعال. وَهَذَا الَّذِي فِي الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا سديد. وَلَكِن لَيْسَ يطرد فَرب حَقِيقَة لَا تصدر مِنْهُ النعوت. وَهُوَ إِذا لم تكن مصدرا. وَرب مجَاز ورد التَّجَوُّز بنعوت صادرة عَنهُ كَمَا ورد الِاسْتِعْمَال فِي أَصله فَكل مَا حل مَحل المصادر وضعا واستعمالا فالأغلب أَنه تصدر مِنْهُ النعوت فَدلَّ أَن ذَلِك مِمَّا لَا يطرد فِي الْبَابَيْنِ: الْحَقِيقَة وَالْمجَاز.
وَمِمَّا ذكره فِي الْفَصْل بَينهمَا أَن الِاسْم إِذا اسْتعْمل فِي شَيْء مجَازًا وَجمع فَجَمعه فِي الْحَقِيقَة يُخَالف جمعه فِي الْمجَاز. وَاسْتشْهدَ بِالْأَمر فَإِن الْأَمر إِذا اسْتعْمل فِي حَقِيقَته فَجَمعه الْأَوَامِر. وَإِذا اسْتعْمل فِي الشَّأْن فَجَمعه الْأُمُور. فَلَيْسَ هَذَا أَيْضا مِمَّا يلْزم طرده فَإِنَّهُ قد يتَّفق جَمعهمَا كَمَا أَن جمع الْأسد فِي السَّبع الْمَشْهُور وَفِي البطل بِمَثَابَة وَاحِدَة. وَكَذَلِكَ جمع الْحمار فِي الدَّابَّة الْمَعْرُوفَة. وَفِي البليد بِمَثَابَة وَاحِدَة، فعندي أَنه مَا ذكر هَذِه الفروق لتمييز الْبَابَيْنِ اطرادا، وَلَكِن ذكر ضروبا من الاتفاقات فِي الْفَصْل بَين الْحَقَائِق والتجوزات.